سورة مريم - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يعني مشركي قريش. و{عِزًّا} معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا. والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي. وظاهر الكلام أن {عِزًّا} راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله. ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى: {كلا} أي ليس الامر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال: {تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك: يكونون لهم أعداء. ابن زيد: يكونون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و{كلا} هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} وقرأ أبو نهيك: {كلا سيكفرون} بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي {كَلَّا} ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه كقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى} [العلق: 6] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف عليها في المعنى الأول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون {كلا} من قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى: كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة. {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} فيوقف على هذا على {عِزًّا} وعلى {كَلَّا}. وكذلك في قراءة الجماعة لأنها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها. ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون. {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ} يعني الآلهة. قلت: فتحصل في {كَلَّا} أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول.
وقال الكسائي: {لا} تنفى فحسب و{كلا} تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل: أكلت تمرا قلت: كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل: وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته. ثم قيل: الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة.
وقيل: فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم.


{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ} أي سلطناهم عليهم بالإغواء وذلك حين قال لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الاسراء: 64]. وقيل {أَرْسَلْنَا} أي خلينا يقال: أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا. {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية. وعنه تغريهم إغراء بالشر: أمض أمض في هذا الامر حتى توقعهم في النار. حكى الأول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد. الضحاك: تغويهم إغواء مجاهد: تشليهم أشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء». وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها. والأز التهييج والإغراء قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تغريهم على المعاصي. والأز الاختلاط. وقد أززت الشيء أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي تطلب العذاب لهم. {إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} قال الكلبي: آجالهم يعني الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب.
وقال الضحاك: الأنفاس. ابن عباس: أي نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم. وقيل الخطوات.
وقيل: اللذات.
وقيل: اللحظات وقيل الساعات.
وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا. وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما. روي: أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقيل في هذا المعنى:
حياتك أنفاس تعد فكلما *** مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحييك في كل ليلة *** ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا
ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس: اثنا عشر ألف نفس في اليوم واثنا عشر ألفا في الليلة- والله أعلم- فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً} في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وكما في الخبر: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله». والوفد اسم للوافدين كما يقال: صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته.
وفي التفسير: {وَفْداً} أي ركبانا على نجائب طاعتهم. وهذا لان الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لأنه مصدر. ابن جريج: وفدا على النجائب.
وقال عمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني؟ فيقول لا- إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا أركبني اليوم وتلا {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً} وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا- إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك. فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك. وتلا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]. ولا يصح من قبل إسناده. قاله ابن العربي في {سراج المريدين}. وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعناه.
وقال أيضا عن ابن عباس: من كان يحب ركوب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الأحمر ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض وسروجها من السندس والإستبرق ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من زبرجد وياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الأهوال.
وقال أيضا عن علي رضي الله عنه: ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه: يا رسول الله!
إنى قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة». ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين.
وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا. قال: «يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ} [الزمر: 73]». قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموعظة فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله- تعالى- حفاة عراة غرلا» الحديث. خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة {المؤمنين} إن شاء الله تعالى. وتقدم في آل عمران من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى. ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا! والله أعلم.
وقال أبو هريرة: {وَفْداً} على الإبل. ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها وقال علي: ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رجالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت.
وقيل: يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس. والله أعلم. وقيل إنما قال: {وَفْداً} لان من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} السوق الحث على السير. و{وِرْداً} عطاشا قاله ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن. والأخفش والفراء وابن الاعرابي: حفاة مشاة.
وقيل: أفرادا.
وقال الأزهري: أي مشاة عطاشا كالإبل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان. القشيري: وقوله: {وِرْداً} يدل على العطش لان الماء إنما يورد في الغالب للعطش. وفي التفسير مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل {وِرْداً} أي الورود كقولك: جئتك إكراما لك أي لاكرامك أي نسوقهم لورود النار. قلت: ولا تناقض بين هذه الأقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفرادا. قال ابن عرفة: الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول: قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد. والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وابل. والورد الماء الذي يورد. وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء. والورد الجزء من القرآن يقال: قرأت وردي. والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت. فظاهره لفظ مشترك.
وقال الشاعر يصف قليبا:
يطمو إذا الورد عليه التكا ***
أي الوراد الذين يريدون الماء. قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ} أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لاحد {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشيء من غير جنسه أي لكن {مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} يشفع، ف {- مَنِ} في موضع نصب على هذا.
وقيل: هو في موضع رفع على البدل من الواو في {يَمْلِكُونَ} أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا. و{الْمُجْرِمِينَ} في قوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فإنهم يملكونها بأن يشفع فيهم. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي» خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم. وتظاهرت الاخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، وعلى القول الأول يكون الكلام متصلا بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الأصنام لاحد، ولا شفاعة الأصنام لاحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال: {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ}.
وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين ولا يملك أحدا شفاعة. {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} أي إذا أذن له الله في الشفاعة. كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وهذا العهد هو الذي قال: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} وهو لفظ جامع للايمان وجميع الأعمال الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع.
وقال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله.
وقال مقاتل وابن عباس أيضا: لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة لله ولا يرجو إلا الله تعالى.
وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قيل يا رسول الله وما ذاك؟ قال: «يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة».


{وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)}
قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً} يعني اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم وخلف: {ولدا} بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى: {لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً} [مريم: 77] وقد تقدم، وقوله: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}.
وفي سورة نوح {مالُهُ وَوَلَدُهُ} [نوح: 21]. ووافقهم في {نوح} خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال:
ولقد رأيت معاشرا *** قد ثمروا مالا وولدا
وقال آخر:
وليت فلانا كان في بطن أمه *** وليت فلانا كان ولد حمار
وقال في معنى ذلك النابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مال ومن ولد
ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الجوهري: الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم. ومن أمثال بني أسد: ولدك من دمى عقبيك. وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد. النحاس: وفرق أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للأهل والولد جميعا. قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب، كما قال:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مال ومن ولد
قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم. قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} أي منكرا عظيما، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الإد والادة الداهية والامر الفظيع ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الادة أدد. وأدت فلانا داهية تؤده إدا بالفتح. والاد أيضا الشدة. والاد الغلبة والقوة قال الراجز:
نضون عني شدة وأدا *** من بعد ما كنت صملا جلدا
انتهى كلامه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {إدا} بفتح الهمزة. النحاس: يقال أد يؤد إدا فهو آد والاسم الإد، إذا جاء بشيء عظيم منكر.
وقال الراجز:
قد لقي الاقران مني نكرا *** داهية دهياء إدا إمرا
عن غير النحاس الثعلبي: وفيه ثلاث لغات {إِدًّا} بالكسر وهي قراءة العامة {وادا} بالفتح وهى قراءة السلمي و{آد} مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية، وكأنها مأخوذة من الثقل يقال: آده الحمل يئوده أودا أثقله. قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ} قراءة العامة هنا وفي الشورى بالتاء. وقراءة نافع ويحيى والكسائي {يكاد} بالياء لتقدم الفعل. {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} 90 أي يتشققن. وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم: بتاء بعد الياء وشد الطاء من التفطر هنا وفي الشورى.
ووافقهم حمزة وابن عامر في الشورى. وقرأ هنا {ينفطرن} من الانفطار: وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد، لقوله تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] وقوله: {السماء منفطر به} [المزمل: 18]. وقوله: {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} 90 أي تتصدع. {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا} 90 قال ابن عباس: هدما أي تسقط بصوت شديد.
وفي الحديث: «اللهم إنى أعوذ بك من الهد والهدة» قال شمر قال أحمد بن غياث المروزي: الهد الهدم والهدة الخسوف.
وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال: هدني الامر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهروي والجوهري: وهد البناء يهده هدا كسره وضعضعه وهدته المصيبة أي أوهنت ركنه وانهد الجبل أي انكسر. الأصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده: إنى لغير هد أي غير ضعيف.
وقال ابن الاعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد:
ليسوا يهدين في الحروب إذا *** تعقد فوق الحراقف النطق
والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول منه: هد يهد بالكسر هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي في الأرض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديده. النحاس {هَدًّا 80} مصدر لان معنى {تَخِرُّ 90} تهد.
وقال غيره: حال أي مهدودة {أن دعوا للرحمن ولدا} {أَنْ} في موضع نصب عند الفراء لان دعوا ومن أن دعوا فموضع {أَنْ} نصب بسقوط الخافض. وزعم الفراء أن الكسائي قال: هي في موضع خفض بتقدير الخافض.
وذكر ابن المبارك: حدثنا مسعر عن واصل عن عون بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم سربه ثم قرأ عبد الله {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً} الآية قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير؟!. قال: وحدثني عوف عن غالب بن عجرد قال:
حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال: إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم {اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً} فلما قالوها اقشعرت الأرض وشاك الشجر.
وقال ابن عباس: اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك.
وقال ابن عباس أيضا وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الأرض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا.
وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً 90} قال ابن العربي: وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا أن الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون قوله تعالى: {وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لان الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في البقرة أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لأنه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد واصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس. قال:
في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة *** ما ينبغي دونها سهل ولا جبل
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} {إِنْ} نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والأرض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} [النمل: 87] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. و{آتي} بالياء في الخط والأصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف.
الثانية: في هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه. وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الأولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه. ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» خرجه مسلم. فإذا لم يملك الأب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الأب أولى لقصوره عنه.
الثالثة: ذهب إسحاق بن راهويه في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: «من أعتق شركا له في عبد» أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والأنثى لان لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} فإنه قد يتناول الذكر والأنثى من العبيد قطعا. وتمسك إسحاق بأنه قد حكى عبدة في المؤنث.
الرابعة: روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد» وقد تقدم في البقرة وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَحْصاهُمْ} أي علم عددهم {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم. قلت: ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي واشتقاق هذا الفعل يدل عليه.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}. ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى {لقد أحصاهم وعدهم عدا} يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية. قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} أي واحدا لا ناصر له ولا مال معه لينفعه كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} على لفظ وعلى المعنى آتوه.
وقال القشيري: وفية إشارة إلى أنكم لا ترضون لأنفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لأنفسكم. وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لأنفسهم بالبنات ويقولون: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم: الأصنام بنات الله. وقال: {فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7